لا أحد يفهم دوافع من ضاقت بهم الحياة حتى وجدوا في مجال العمل الحر ملاذاً لأحلامهم، ولا أحد يدرك مقدار الطاقة الجسدية والنفسية المستنزفة كل يوم من أجل كسب بضعة دولارات بالكاد تكفي لرشوة حاضر نرجوه أن يمنحنا حفنة أمل صغيرة تعدنا بمستقبل أفضل؛ إلا من تمرغ قلبه في وحل التحديات الجسيمة، وسُكب عرقه باللترات على أرصفة الطرقات جرياً خلف لقمة العيش.

كثير ممن يبدؤون بتقديم الخدمات عبر الإنترنت، ينشدون بارقة أمل تنتشلهم من أوضاع اقتصادية صعبة في ظل تحديات سوق العمل الواقعي، ليصطدموا بحائط جديد تمثله المنافسة الشرسة ضمن سوق العمل الافتراضي. ومع ذلك، يحاربون، ويكافحون، وينهضون من بعد كل سقوط ليتابعوا الطريق المفروش بالأشواك أملاً بغد أجمل.

مثل هذه الظروف يا سادة، تدفع الكثيرين منا إلى محاولة إثبات جدارتهم عن طريق المبالغة بعرض خبراتهم ومهاراتهم، إلى حد يجعل بعضنا يعتقدون بالفعل أنهم بلغوا أعلى المراتب ضمن مجال معين (كمن يكذب الكذبة ثم يصدقها)، بينما يعلم آخرون أنهم يفرطون بوصف قدراتهم، غير أنهم يرجون بذلك تعزيز فرصهم بكسب العملاء، في حين أن فئة ثالثة، يحزنني أمرهم، لا يشكّون للحظة واحدة ببراعتهم المتوهَّمة.

لست بصدد إطلاق حكم على أحد، وإنما أصف حالات شهدتها خلال أعوام طويلة، وأود لفت انتباه الجميع إلى أهمية تقييم مدى جودة ما نقدمه من طرف خبراء ومبدعين ضمن المجال أو المجالات نفسها، لا من طرفنا نحن فقط. إذ يمكنك أن تتوهم أو توهم نفسك بأنك الأمهر ضمن مجالك، لكن تقييمك قد لا يصيب كلياً أو جزئياً.

خلال مسيرة تمتد لسنوات طويلة، جمعتني الحياة بعشرات المستقلين ممن يظنون أنهم بارعون ضمن مجال الكتابة أو الترجمة مثلاً، إلى درجة أن كثيراً منهم صُعقوا حين واجهتهم بصراحة ملطّفة وانتقاد بنّاء يشير إلى عدم إتقانهم لأبسط أساسيات المجالين.

شهدت العشرات ممن يعتقدون أنهم كتّاب ومترجمون ماهرون، في حين لا يستطيع الواحد فيهم كتابة أو ترجمة فقرة صغيرة دون ارتكاب العديد من الأخطاء اللغوية الفادحة. وبينما يخجل كثيرون من عرض أعمالهم على مستقلين ضمن المجال نفسه حتى لا يُنتقدوا، تراني أشتري كل فترة (عادة مستمرة منذ سنوات) خدمة جديدة من كاتب أو مترجم أو مدقق لغوي من مختلف المنصات لأتعلم أي شيء جديد مفيد.

أستغرب حتى اليوم، كيف أن هناك عشرات الكتّاب والمترجمين الذين يشعرون أنهم ختموا العلم، ويعتبرون التعلم من غيرهم تقليلاً من شأنهم ومستوى مهاراتهم، ولا يلجؤون إلى أساتذة اللغة العربية المخضرمين بهدف الوصول إلى مستوى جديد من الإبداع والإتقان! نفس الشيء ينطبق على كثير من المصممين وغيرهم من المستقلين (لست أعمم طبعاً، فهناك من يسعون إلى التعلم من غيرهم).

ربما أتحدث ضمن موضوع آخر حول المبالغ الكبيرة التي استثمرتها خلال مسيرتي. البارحة مثلاً، صُعقت حين جلست لأخذ لمحة سريعة حول المبالغ المدفوعة لشراء الخدمات من خمسات لوحدها، بقصد تطوير مهارات متنوعة، أو شراء ملفات أقدمها هدايا لعملائي، أو خلاف ذلك مما يعود عليّ بفوائد مهنية عظيمة. لا بد أنني برتبة عميل مميز على أقل تقدير. (مشتري مميز: مبلغ المشتريات بين 205$ و 995$).

نستنتج مما ذكرته آنفاً، أن سبب إخفاق عشرات المستقلين هو تقديرهم الزائد أو المتوهم لمهاراتهم الفعلية، لأنهم استندوا إلى رأي شخصي، عوضاً عن الاستعانة بآراء المتمرسين ليحصلوا على تقييمات دقيقة حول جودة أعمالهم، ويستفيدوا من النصائح الثمينة لأهل الخبرة.

لا تقيم جودة أعمالك بنفسك فقط، بل دع الخبراء يقيمون أعمالك أيضاً حتى تتكون لديك صورة أوضح، وتضع يدك على مكامن القوة والضعف. ولا تخجل من الانتقاد البناء، بل تقبل ملاحظات المتمرسين، واستفد من نصائحهم لتنتقل إلى محطة النجاح التالية.

أعلم أن الظروف الصعبة يمكن أن تدفع المرء إلى توهم بعض الأشياء، أو الإفراط بتقدير المهارات، أو الخوف من الانتقاد الذاتي أو الخارجي خشية انكسار الصورة المرسومة وفقدان فرص النجاح المنشودة؛ لكن صدقني أن الطريق إلى القمة يتطلب الوقوف أمام المرآة.

حين تنتقد نفسك بشفافية قبل أن ينتقدك أحد، وتتقبل نصائح الآخرين بدلاً من الإصرار على ما تعتقده حول مستوى مهاراتك، وتصغي السمع باهتمام لإرشادات المبدعين ضمن مجالك، وتدرك أنك برحلة تطوير مستمرة ما دمت حياً؛ ترتقي إلى قمة جديدة كل مرة.

فكرة جانبية ذات صلة:
أناشد أساتذة اللغة العربية المخضرمين، بإضافة خدمات تُعنى بتدريب المستقلين من الكتّاب والمترجمين وغيرهم بأسلوب غير تقليدي، وبأسعار تشجع ذوي القدرة الشرائية المحدودة على الاستمرار بطلب المزيد من الدروس. كما أدعو الكتّاب والمترجمين والمصممين (جميع المستقلين حقيقة) إلى إضافة خدمات تعليمية تفيد زملاءهم المستقلين، والعملاء الراغبين بتعلم مهارات جديدة.

وأخيراً، أود أن ألفت الانتباه إلى أن الخدمات التعليمية ضمن المنصة قليلة جداً، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام كل من يرغب بتعزيز فرص نجاحه، عبر تقديم دروس مفيدة (بأسعار مشجعة) يمكن أن يطلبها العملاء والزملاء (ربما أكون عميلك القادم).

عن الموضوع

التعليقات (13)

منذ سنة و5 أشهر
شكرا نبراس ع الرواية القصيرة الجميلة ، فكلماتها يُذكرني عندما كنت مبتدأ، قبل 3 سنوات او اكثر تقريبآ ، حينها كنت اصمم تصميم مبتدأ ، وبنظري انا انها قوية جدا ، وكنت أرى خبراء رهيبون جدا ، فأدركت ان يجب عليا انا اتطور اكثر وان الوهم الذي في عقلي الباطني بتصميم العملاقة هيا كذبة قد اخترعتها ع نفسي ، ففعلا اخفيت التصميم( المبتدأ ) في منصتي الخاصة بي ، وبدأت ان ادخل لمصممين علامقيين مبدعيين ، ارسلت إليهم اعمالي ، فكان نقدهم اللطيف وهو( تصميم جميل بس نركز ع الالوان اكثر والدمج الالوان وكثرت الشخصيات بالتصميم يفشل التصميم… ) ، لم اكن انزعج حينها بالعكس ، عملت ع تطوير النفس وذات لحين حصلت ع اول شركة واول عميل اعمل بها ، فوضعت كل خبرتي البسيطة وازدات اكثر معهم ….( فسبحان الله اخي نبراس زكريت جميلة وطموحه ) ، وانا عندما اشاهد تصميمي المبتدأ اضحك - _ -
منذ سنة و5 أشهر
جميل جداا بارك الله فيك
موفق للخيرات دوما أستاذنا الغالي
منذ سنة و5 أشهر

تم حذف هذا الرد من قبل إدارة خمسات:

منذ سنة و5 أشهر
على الرحب براء، وشكراً على مشاركة تجربتك.
تقييم أصحاب الخبرة والاقتداء بنصائحهم يعزز جودة أعمالنا، مما يكسبنا عملاء أكثر.
منذ سنة و5 أشهر
أهلاً بك زميلي محمد.
تمنياتي بمزيد من النجاحات.
منذ سنة و5 أشهر
نصائح ذهبية لكل بائع جديد:
1) دليل البائع الجديد 1:
https://io.hsoub.com/freelancing/141059
2) دليل البائع الجديد 2:
https://io.hsoub.com/freelancing/141360
3) ثمانية أخطاء مدمرة عليك تجنبها داخل منصة خمسات:
https://io.hsoub.com/freelancing/141094-8
4) خدمات اشتريتها فأحدثت فارقاً إيجابياً في مسيرتي وأرباحي:
https://io.hsoub.com/freelancing/149191
منذ سنة و5 أشهر
شكرا على النصائح القيمة
منذ سنة و5 أشهر
لا شكر على واجب عزيزي.
منذ سنة و5 أشهر
شكرا جزيلا أستاذ نبراس على هذه المعلومات القيمة، المستقلين في خمسات ينبغي عليهم ألا يبالغوا في وصف قدراتهم حتى لا يتم تقييمهم تقييما سلبيا، حيث يمكنهم البدء بالتعامل مع العملاء الذين لا يطلبون خدمات احترافية جدا مثل تفريغ وتنسيق الملفات أو تصميم السير الذاتية، وهم يتعلمون في نفس الوقت وكلما تعلموا مهارة جديدة ورأوا نفسهم قادرين على تقديمها، يمكنهم ذلك حينها.
منذ سنة و5 أشهر
قد أثرت موضوعا جميلا أخي نبراس، قد يرى المرء عمله أحيانا قد بلغ ذروة الكمال، وأنه لا يجارى في ما قد صنع، حتى إذا طال العهد، أبدت له الأيام نقائصه ومثالبه، وجميل ذلك الإنسان الذي يقبل ثقافة النقد، ويراها تصنع شخصيته، وتطور مهاراته.
وخير مثال على ما ذكرت، هو أن الواحد منا يرى نصه الذي خطته أنامله بعيدا كل البعد عن الأخطاء، ولعله يعيد قراءته مغترا بنفسه مرات، دون أن يلحظ فيه زلة سرعان ما اكتشفتها عين غير عينه.
وما أجمل قول القائل: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.
منذ سنة و5 أشهر
شكراً على مشاركتك وطرحك زميلي محمود.
بالإمكان أيضاً تقديم خدمات لا تتطلب الخبرة، كالكتب التعليمية البسيطة (من إعداد البائع).
منذ سنة و5 أشهر
أحسنت القول عزيزي محمد!
من يحتضن النقد البناء يرتقي إلى القمم، ومن يعتنق الغرور يبقى حبيس أوهامه يتخبط دون تقدم.
منذ سنة و4 أشهر
نصائح ذهبية لكل بائع جديد:
1) دليل البائع الجديد 1:
https://io.hsoub.com/freelancing/141059
2) دليل البائع الجديد 2:
https://io.hsoub.com/freelancing/141360
3) ثمانية أخطاء مدمرة عليك تجنبها داخل منصة خمسات:
https://io.hsoub.com/freelancing/141094-8
4) خدمات اشتريتها فأحدثت فارقاً إيجابياً في مسيرتي وأرباحي:
https://io.hsoub.com/freelancing/149191

عن الموضوع