نظرية فرويد في تسعير الخدمات: حكاية جندي على رقعة خمسات
حدثني أحد المصممين "المصممين" قائلاً: بما أن النفس البشرية ـ حسب فرويد ـ أسيرة دوافعها البدائية، فقد انجذبتُ - كما ينجذب الخشب إلى النار - إلى تلك الفكرة الساحرة: “اجذب الزبائن بالسعر، ودعهم يزدادون كما تنتشر الأزهار في الربيع”.
فقلت لنفسي، ولم يكن عقلي بسويته الطاقية المعتادة حاضراً: “ما المشكلة إن صممتُ عشر شعارات في اليوم مقابل عشرة دولارات؟ أليست هذه بركة؟ أليست الكثرة خيراً؟ أليس هذا ما يسمونه بالاقتصاد التشاركي، يا عزيزي؟ كنت أعيش وهم البركة الرقمية. لكنني، ويا للمفارقة، لم أكن أبارك نفسي بأي شيء سوى الإجهاد العقلي، والسهر المزمن، وانخفاض تقديري الذاتي الذي بات يقتات على تقييمات خجولة من عملاء يتصرفون وكأنهم يشترون العالم بخمسة دولارات.
كان أحدهم، ولا أزال أذكره بلقب “المشتري 25”، يطلب شعاراً، ثم يُرسل ملفاً فيه ٤٢ صفحة عن رؤيته المستقبلية، ويختم رسالته بعبارة: “ما تتأخر علي، الشعار بسيط جداً .. أنا مصمم سابقا وبفهم الشغلة.”
أهكذا يتحدث فرويد عن اللاوعي؟ أهكذا يُكافَأ الإبداع؟ أهكذا نُحطُّ من القيمة الذاتية للإبداع الفني أمام مشاعر زائفة بالوفرة؟
في تلك الليلة، وبينما كنت أُسلّم الطلب رقم 25 من فئة "خمسة دولار"، انتابني شيء أقرب إلى لحظة وعي وجودي.
لحظة “epiphany” كما يسميها الإغريق حيث يسقط عليك الإدراك من السماء، وتفهم أخيراً أنك كنت تلعب لعبة لا تشبهك.
قلت لنفسي: “ماذا لو توقّفت عن تقديم خدمات كثيرة رخيصة، وركّزت على خدمة واحدة أو خدمتين أو حتى ثلاث فاخرة؟ ماذا لو رفعت السعر؟ ماذا لو قلت للعالم: أنا أستحق أكثر، وأعمالي ليست للبيع في مزاد علني؟”
وقررت أن أجرب.
أوقفت تسع خدمات دفعة واحدة، وكأنني أخلع طبقة من طبقات الإليستريتور وأرمي بها في سلة المهملات، وأبقيت ثلاث خدمات فقط: أبرزها تصميم شعار، لكن ليس أي شعار. شعار يحترم الفكرة، يُجسّد العلامة، ويحتفي بالرمزية. الشعار الذي لا يولد في ساعة، بل يتكوّن كما يتكوّن الإنسان في رحم المعنى.
وضعت سعراً أعلى بل أعلى بكثير. وقلت لنفسي: “الآن، من يأتيني، فهو جاد. ومن يطلبني، فهو يفهم.”
مر أسبوع. لا أحد. مر أسبوعان. صمت.
ثم جاء أول عميل. ويا للمفاجأة: لم يسألني عن خصم. لم يطلب تعديلات غير منتهية. قال فقط: “أثق بذوقك، خذ وقتك.” اشترى بما يعادل دخل شهرٍ كامل من عملي السابق هل تصدّقون؟ كنتُ على وشك أن أجهش بالبكاء. (صراحةً لا .. لكن من أجل السياق الدرامي وقد تكون دموع الفرح في مناسبة أخرى)
توالت الطلبات بعد ذلك، ولكن بوتيرة تشبه العزف الكلاسيكي. هادئة. متقنة. منتقاة. وكأنها السيمفونية السابعة لبيتهوفن صرت أشتغل بهدوء في الصباح، أحتسي قهوتي دون أن أضغط على زر التسليم قبل أن يبرد الفنجان.
أصبحت أرباحي أعلى، لكن الأجمل: أنني صرت أحترم نفسي أكثر. صرت أتفنن، لا أُنجز فقط. أصنع، لا أُسوّق لنفسي كآلة أوتوماتيكية.
باختصار، لقد اكتشفت أن:
الخدمة التي تُسعّر بكرامة، تُسلَّم بإبداع. أما الخدمات الرخيصة، فهي كالعلاقات الحياتية السطحية: كثيرة، مُرهقة، وتنتهي غالباً بندمٍ صغير أو كبير.
والحقيقة أنني في لحظة تأمل باردة تشبه رقعة الشطرنج بعد نقلات عشوائية كثيرة، أدركت أنني كنت أتحرك كجندي لا يعرف أنه في متاهة تُديرها أحصنة طائشة وعملاء يلعبون دون ساعة. كنت أُنجز، لا أُفكّر، أتحرك من خانة إلى خانة بلا خطة، بلا افتتاحية، بلا وسط، وبالطبع بلا نهاية مشرّفة.
والآن، بعد أن صحوت من غفوة التكتيك السريع، فهمت أن التسعير المنخفض كان يشبه تماماً تحريك الملك أو الملكة في بداية اللعبة، تصرّف يفضح ضعفك فوراً.
وحدها النقلة المدروسة، وحده الصبر على بناء الهيكل الكامل للخدمة، وحده الهدوء الذي يسبق "كش مات" راقية، هو ما يصنع منك مصمماً من "المصممين".
ربتت على كتفه برسالة نصيّة وقلت له بابتسامة علت محياي "بوركت!"
لهذا يا صديقي العزيز، إن كنت تقرأ هذا الآن وتفكر في تخفيض سعر خدمتك لجذب عدد أكبر من العملاء، اسأل نفسك: هل تريد أن تكون مُستقلاً أم مجرد آلة إنتاج صغيرة في مصنع زبائن لا يقدرون القيمة؟
كن خادماً لفنك، لا عاملاً في السوق. وارفع رأسك، وسعرك.
ولعلّي هنا، في لحظة اعتراف شفيف، أقول: لولا ذلك الركن الرقمي المسمّى خمسات، والذي احتمل نزقي الأول، وتخبّطي المبكّر، ومراهقتي السعرية، لما كنت اليوم أكتب هذه السطور بكامل قواي التصميمية. تلك المنصة، التي بدت لي أول الأمر سوقاً مكتظة، اتضح أنها ككل شيء عظيم، تحتمل في باطنها الهدوء لمن يُحسن العزف، والفرصة لمن يُتقن الانتظار. فمن باب الدقة النفسية التي يقدّرها الزميلين، مينغ وفرويد، أقول: أنا ممتن، رغم طمعي في ظهور خدماتي في التصنيفات كل الوقت.
مع خالص تحياتي من عمق الأنا العليا المتواضعة
صديقكم وزميلكم فتحي غبّاش - Fathi Ghabbash خمسات - Khamsat في السابع من أغسطس، عام 2025م
مقاربة نفسية فرويدية مميزة، تحتاج عقلا ناقدا مبدعا لإنتاج تمفصلاتها و كشف تموجاتها المستبطنة. و الخلاصة : الخدمة التي تُسعّر بكرامة، تُسلَّم بإبداع. أما الخدمات الرخيصة، فهي كالعلاقات الحياتية السطحية: كثيرة، مُرهقة، وتنتهي غالباً بندمٍ صغير أو كبير. تحياتي
صدقت أخي فتحي، فعلاً كلامك جواهر.. قبل سنتين تقريباً وبعد مرور ما يقارب سنة من تقديم خدماتي، أدركت أنني أقدم خدمات عالية الجودة بفضل الله، وأنني لابد أن أقوم برفع سعر الخدمة، والحمدلله كان أكثر قرار صائب خلال مسيرتي، تحسنت التجربة مع العملاء وكنت أقدم عدد أقل نسبياً من الخدمات لكن بمردود أعلى، وصراحة هذا منحني وقت أكثر للتركيز على الطلبات ذاتها وتسليمها على أكمل وجه، ووقت للتركيز على عملي الآخر كطبيب. شكراً على طرحك المميز وكلماتك الجميلة، وأتمنى لك التوفيق!
خالد ا: أهلاً بك خالد تعليقك أشبه بما يُكتب في هوامش مؤلفات "كارل يونغ" حين يستيقظ ضميره على نغمة كلاسيكية من فرويد!
توصيفك "مقاربة نفسية فرويدية مميزة" أثلج صدري، لا لأنني أستحقه، بل لأنك أدركت بذكاء أن الغاية من الطرح لم تكن مجرد الحفر في سطح السوق، بل الغوص في ديناميكيات النفس المستقلة بين التوق للربح والخوف من الرفض. تحياتي لك صديقي.
أحمد ا: مرحباً أحمد كلماتك وقعت في مكانها تماماً، ليس فقط لأنها تؤكد الفكرة، بل لأنها جاءت من واقع تجربة تُشبه تماماً لحظة “epiphany” التي مررتُ بها .. تلك اللحظة التي لا تُقاس بالمال، بل بالفهم العميق لما تستحقه يدك وفكرك.
قولك: "أدركت أنني أقدم خدمات عالية الجودة بفضل الله، وأنني لابد أن أقوم برفع سعر الخدمة" هو شهادة ناضجة تختصر سنوات من الصدام بين الاجتهاد وسوء التقدير.
سُررت بأن مقالي لم يكن مجرد انعكاس لذاتي، بل مرآة لرحلتك أيضاً. وفعلاً، كما تفضلت، التركيز على النوع لا الكم هو الفارق بين من يعمل .. ومن يبني. وبين من يسلّم الطلب .. ومن يوقّع اسمه على قطعة فنيّة.
أشكرك على حضورك الأنيق، وكلماتك التي تعبّر عن مستقل لا يُنجز فقط، بل يُفكّر وهو يُنجز. ودمتَ بخير، طبيباً في تخصصك، ومُعالجاً أيضاً لقيمة ما تصنعه يدك.
قصة ملهمة وتجربة ثرية تعكس تحديات العمل الحر وقيمة احترام الذات المهنية.
التسعير القيمي لا يقلل من فرص النجاح بل يرفع من مستوى الاحترام المهني والثقة بالنفس.
في عالم العمل الحر، ليس عدد العملاء فقط ما يصنع النجاح، بل اختيار العملاء المناسبين الذين يقدرون القيمة الحقيقية لعملنا فهو يحتاج إلى استراتيجية صبورة ومدروسة، حيث الجودة والتميز هما مفتاح بناء سمعة قوية ومستدامة.
بوركت خطواتك وتمنياتي لك بمزيد من النجاح والإبداع.
"بوررررركت" استاذ فتحي علي ما كتبت و علي ما ابدعت و كانك بدات كتابه المقال في تسارع و توتر و قلق و انتهيت بالمقال و انت ملئ بالثقه و رسو قدميك في مكانهما الصحيح استفدت كثيرا ما مقالتك
اسامه ص. - شكراً جزيلاً يا أسامه على كلماتك المشجعة وتقديرك الطيب، وسعيد أن المقال لامس تجربتك الشخصية. اتفق تماماً أن وعي المصمم أو المستقل بقيمة عمله هو الأساس في اختيار عملاء يقدّرون جهده ووقته، فالعلاقات المهنية الناجحة تبدأ دائماً من الاحترام المتبادل. كل الأمنيات لك بمزيد من النجاحات وعملاء يعرفون قيمة عملك الحقيقية.
Elsayed A. - شكراً لك أستاذ السيد على كلماتك المشجعة، أسعدني جداً أن تجد في أسلوبي إضافة تليق بذوقك، وهذا شرف أعتز به. جزاك الله خيراً وبارك فيك.
أكرم ص. - أكرمك الله أكرم، وشكراً على كلماتك الطيبة، تعليقك لخص التجربة التي يمر بها كل مستقل ناضج في هذه المهنة، وتشبيهك بعميل واحد يدفع 500$ مقابل مئة عميل بـ5$ أبلغ من أي شرح. سعيد باتفاقنا في الرؤية، وأتمنى لك دائماً عملاء يعرفون قيمة جهدك كما تستحق.
عطاف أ. - شكراً عطاف على هذه القراءة العميقة للنص، وسعيد أن الرسالة وصلت بروحها لا بحروفها فقط. أتفق معك تماماً أن احترام الذات المهنية والتسعير العادل هما أساس بناء سمعة متينة وجذب العملاء الذين يقدّرون القيمة الحقيقية للعمل. كلماتك أضافت بعداً جميلاً للنقاش، وأتمنى لك دائماً مشاريع تليق بطموحك وجودة خدماتك.
.Omar A - أشكرك من القلب على كلماتك الراقية والمحفّزة وجود قرّاء مثلك يضيف لكتاباتي قيمة ومعنى أتمنى لك مسيرة مكللة بالنجاح في خمسات
.Akmal T - أشكرك من القلب على هذا التقدير العميق والدعم الكبير سعيد جداً أن المقال ترك عندك هذا الأثر، وأنك وجدته متوازناً ومُطمئناً بعد بدايته المتسارعة أتمنى لك كل النجاح والتوفيق
سلمت يداك على الانتقاء والطرح .. يجب أن يؤمن الانسان بنفسه و بجودة مايقدمه و ميزاته و جوهر خبراته حتى و ان كانت المنافسة كبيرة لدي قناعة بالشريحة المستهدفة و هذه تكفي .. مع أمنياتي لك بالتوفيق
تحيات على هذا الطرح والفكرة المميزة في الواقع نظرية فرويد يمكن تفسيرها على عدة منحنيات لو قمنا بتحليلها بمفهوم فسلفي، وأوافق فكرتك، فتقدير الجهد يأتي من صاحب الجهد نفسه أولا ثم بنتقل للعميل وليس العكس.
.Heba A - شكراً جزيلاً لكِ أستاذة هبة على كلماتك الجميلة أتفق تماماً معك، فالإيمان بالذات وبجودة ما نقدمه هو الأساس، ومع وضوح الشريحة المستهدفة يصبح العمل أكثر تركيزاً وفاعلية. سعيد بمداخلتك القيّمة وأتمنى لكِ التوفيق كذلك.
.Abdennour M - سعدت بتواصلك أستاذ عبد النور على هذه القراءة العميقة. صحيح، التقدير يبدأ من الداخل من وعي صاحب الجهد بقيمة ما يقدمه، ثم ينعكس لاحقاً على نظرة العميل. وهنا يكمن جوهر النظرية: أن التسعير ليس مجرد رقم، بل انعكاس لوعي الإنسان بذاته وخبراته، قبل أن يكون انعكاساً للسوق. سعيد جداً بإضافتك الفلسفية التي أثرت الموضوع.