بصفتي مصمم شعارات وهويات بصرية لمدة طويلة، أستطيع أن أؤكد لك شيئاً واحداً: لا يوجد مشروع صغير، بل يوجد من يُصغّر مشروعه بنفسه عن طريق تصميم سيء أو لا يعكس جوهره.
مرّت عليّ مئات الطلبات، منها ما يُطلب بـ"لهفة" ومنها ما يُطلب بـ"ميزانية ضئيلة وروح معنوية ميتة"، لكن ذات يوم، على خمسات، وصلتني رسالة تقول:
"أريد شعار لمحل عطور منزلي، مشروعي صغير وميزانيتي محدودة .. بس نفسي يبين كأنه علامة كبيرة."
كان صادقاً، وكنت في مزاج فني وفلسفي جيد، فقررت أن أتعامل مع الطلب كما لو أني أصمم لجيرلان أو شانيل، لا لأن الميزانية مغرية، بل لأن التحدي مثير، ومن قال إن الإبداع مرتبط بالفواتير؟
فتحت نوتة ملاحظاتي (الورقية طبعاً، لأن الإلهام لا يحب شاشات)، وبدأت أفكر: – كيف تجعل الزبون يتخيل عبير العطر من مجرد "لوغو"؟ – كيف تُقنع العين أن الأنف لها عمل تنتظره؟ – كيف تصمم شعاراً لا يُوضع على العلبة فقط، بل يُزرع في الذاكرة مثل نفحة عود في قميص قطني نُسي في السيارة تحت شمس أغسطس؟
درست ألوان السوق، شميت صور المنافسين، وسمّيت الملف "كيف تجعل العطر يُشمّ بصرياً". عملت، صممت، وعدّلت، حتى أن الحروف نفسها بدت وكأنها تتعطر.
أرسلت العمل. بعد أسبوع، عاد إليّ الرجل برسالة قد تُعلّق على باب مكتبي مستقبلاً:
"التصميم اللي عملته خلّى الناس يشوفوا مشروعي بمنظور جديد. حتى متجر محترم وافق يعرض عطوري لأنه انبهر بالبروشور اللي صممته."
وهنا فهمت: التصميم ليس ترفاً، ولا كماليات، بل هو العمود الفقري الذي يُشعر المشروع بأنه يستحق أن يُؤخذ على محمل الجد.
أنا لا أبيع شعارات، أنا أبيع انطباعات أولى لا تُنسى، وأحياناً أبيع "هيبة".
ما أجملك حين تكتب لا بوصفك مصممًا فحسب، بل حكّاءً ينثر فلسفة الجمال، ويصوغ من التفاصيل العادية درسًا في الذوق والهوية والثقة.
كلماتك لم تكن مجرد سطورٍ عن تصميم شعار، بل تأمّلٌ عميق في روح المشاريع، في كيف يمكن للفكرة – وإن توارت خلف ميزانية خجولة – أن تنهض وتشمخ إذا ما وجدت من يؤمن بها حقًا.
بارك الله في إبداعك، وأدام عليك تلك الروح التي ترى في كل طلب فرصة لا للاشتغال فقط، بل لترك أثر.