أواخر سنة 2000 كنتُ حديثَةَ عهْدٍ بالتَّخَرُّج من كليةِ العُلُومِ الاقْتِصادِيَّةِ وَالقَانُونِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ في الرباط شُعْبة العُلوم الاقتصَاديَّةِ باللغةِ الفرنسيةِ.
كنتُ حريصةً على تقديم ملفي يمينًا وشمالًا رغبة في الولوج إلى مدرسة من المدارس العليا من أجل الحصولِ على الماجستير أي الماستر كما يطلقُ عليه في نسخته الحديثة عندنا في المغرب. وحدثَ مرةً أن قَدَّمْتُ ملفي لدى مدرسة الملك فهد العليا للترجمة والتي مقرُّها موجود في مدينة طنجة شمال المغرب. أرْسَلَتِ المدرسةُ إليَّ وصلا بقبولي لاجتياز مباراة الولوجِ بعد تحقُّقِها من توفري على شروط اجتياز المباراة والتي من ضمنها الحصول لسنتين على درجة مستحسن خلال السنوات الأربع من الإجازة. لكنني دخلتُ في أَخْذٍ وردٍّ مع نفسي : هل سيوافقُ والداي على ذهابي إلى مدينة طنجة ومن ثمَّ السكن فيها بمفردي حتى وإنْ نَجَحْتُ في المباراة؟ أخذ مني التفكيرُ وقْتًا طويلا، لكنني عَزَمْتُ أمري بعد ذلك على التخلي عن المشاركة في تلك المباراة.
حدثَ في يوم من الأيام بعد التخرج أن ذهبتُ إلى مدرسةٍ من المدارس العليا في مدينة الرباط لأقدم ملفي فيها. لفتَ نظري سرعةُ إحدى الموظَّفاتِ في إِدَارَة تلك المدرسةِ العليا في تعامُلِها مع لوحةِ مفاتيح الحاسوب من دون النظر إليها.
ذُهِلْتُ من سُرْعَتِها ومِنْ تمكُّنها، ما شاء الله !
انبعث في داخلي شُعورٌ حثيثٌ ورغبةٌ جامحةٌ في تحقيقِ هَذَا الهَدَفِ ! ألا وهو التوصُّلُ إلى الرَّقْنِ على لوحة مفاتيح الحاسوب من دون النظرِ إليها !
أحرزتُ بعد ذلك وخلال شهر واحد من حصولي على الإجازة على أولِ تدريبٍ لدى مكتبٍ للمحاسبة، كنت أقومُ بجميع أعمال المحاسبةِ المطلوبةِ مني بكل حماسٍ وأترك ما بقي من الوقت لحفظ لوحة مفاتيح الحاسوب ولاستكشاف خبايا استعمالات برنامج الوورد والإكسيل.
كان أول ما بدأتُ بهِ هُو حِفْظُ لوحة مفاتيح اللغة الفرنسية. فقُمتُ بادئ الأمْرِ بكتابةِ كافةِ أيقونات حروف لوحة المفاتيح على ورقةٍ بالشكل الذي يُمَكِّنُني من حفظِها عند عودتي إلى المنزل مساءً، فلم يكن لدينا بعدُ حاسوبٌ في البيت وذلك لأن انتشار الحواسيب في ذلك الوقت لم يَكُن بالشكل المعهود حاليا.
أضع أمامي فقرة باللغة الفرنسية، أضع السبابة اليُمنى على حرف j، والسبابة اليُسرى على حرف F الواقعتان في السطر الأوسط، ثم أوزِّع تموقعَ جميعِ أصابعي على الأسطر العلوي والأوسط والسفلي مما يسمحُ لكلِّ الأصابعِ بالحركة بكل انسيابية وأحاول تثبيت مواقع الأيقونات في ذهني بالتدريج. كرَّرتُ العمليةَ مراتٍ ومرات ...
الحمد لله ! لا أستطيع وصفَ فرحتي عند تمَكُّني من ضبط مواقع الأيقونات!
على إثرِ ذلك استجمَعْتُ قوَّتي من أجل تجاوزِ تحدي السرعةِ في الرَّقْنِ، فبدأتُ أسارع حينا بعدَ حينٍ في كتابة الفقرات والنصوص بشكل سريع ومع مرور الوقت يَسَّرَ لي ربي عز وجل ذلك الأمرَ في وقتٍ قياسيٍّ.
الحمد لله ! إنها فرحةٌ عارمة ! لكن النفس البشرية تتوق دائما إلى المزيد، وأضحى هدفي بعد هذا هو حفظُ لوحة مفاتيح الحاسوب باللغة العربية. لم يكن الأمرُ شديدَ الصعوبة، فلم أحتج إلا إلى تثبيت مواضع الحروف العربية مكان الحروف الفرنسية التي سبق لي وأن حفظتها من قبل. فكان لي ما رغبت فيه بعد جهد جهيد يسَّرَ لي ربي بَذْلَه من أجل تحقيق مبتغايَ والحمد لله. ثم تلَتْ ذلك مرحلةُ ضَبْطِ النصوص بالشكل التام فصِرْتُ بعد ذلك أكتب النصوص مع الشكل.
مرت أربع سنوات من العمل الدؤوب، عملتُ في مكتب للتكوين والاستشارات في مجال التسويق والأعمال المكتبية وبعدها عملتُ في موقع الأنترنيت لأحدى الوزارات وكان لتمَكُّني من لوحةِ مفاتيح الحاسوب دور كبير في جميع الامتيازات التي حصلت عليها ولله الحمد المنة.
تزوجت ثم انتقلتُ بعد مدة مع زوجي إلى مدينة طنجة حيثُ مقرُّ تعيين زوجي حينها كان عمرُ ولدِنا يراوح عاما واحدا.
بعد أربع سنوات وبعد أحداث متنوعة تذكرتُ مدرسة الملك فهد للترجمة فاطلعتُ على منشور مباراة الولوج لسنة 2011 وعلى الشروط المطلوبة. قمتُ بجمع ما يلزم من أوراقٍ بُغيَةَ التسجيل. طلبتُ من زوجي تقديم ملفي نيابةً عني بعد عشر سنوات من الترشح الأول بعد تخرجي من الكُلِّيةِ سنة 2000 وكذلك كان. تقديرُ العزيز العليم!. تم قبول ترشيحي فراجعت واستذكرت ما تيسر ثم اجتزت المباراة وكلَّلَ الله المجهود بالنجاح ولله الحمد. ولن أنسى فضل زوجي بعد الله عز وجل، فقد قدَّم إليَّ كل العون والمساندة طوال فترة الدراسة جازاه الله عنِّي كلَّ خيرٍ.
أخذتِ الدراسةُ مسارها بسلاسة خلال السنتين كلتيهِما، وكُلَّما طلب منا أستاذ من أساتذتنا تحضير بحثٍ أو تقديمَ عرض سواء باللغتين العربية أو الفرنسية لم أتوانى قَطُّ، بل كنت أجد المتعة في البحث والتحضير، ناهيك عن بحث التخرج.. حدِّث ولا حرج، وكيف لا وقد كنت أشعر بالامتياز لتمكُّني من لوحة مفاتيح الحاسوب إضافة إلى شغفي المكنون بمَجال الترجمةِ وجَمالِه !.
ولازلت أتذكرُ في غير ما مرةٍ كلمات والدي حفظه الله ويقينُه بأن بذْلَ المجهود بعد التوكل على الله في كل شيء أمر بديهيُّ لا حياد عنه ولا مناص منه في كل لحظة من لحظات حياة الإنسان، وأنه مدام على قيد الحياة فبإمكانه تعلُّم المزيد والمزيد، وبالتالي فباستطاعته رؤيةُ الحياةِ من زواياها المُشرقة !.
عن الموضوع

التعليقات (8)

منذ 3 سنوات و8 أشهر
مشاء الله

تتحلين بالصبر والإجتهاد وعدم التهاون فى مستقبلك ونجاحك بالنسبة لكِ فرض.

قصتك مشوقة ووصولك للهدف شيء مُحفز وجميل ومتوقع مع هذا الجهد.

أتمنى لكِ المزيد والمزيد من التوفيق والفلاح.
منذ 3 سنوات و8 أشهر
ما شاء الله وفقكي الله وسدد خطاكي وزادكي علماوعملا
منذ 3 سنوات و8 أشهر
سعدْتُ بمرورِكُما أختي دينا وأخي فتحي، شُكْرًا لَكُما عَلى إطْرَائِكُما الجميل.
منذ 3 سنوات و8 أشهر
اختي ممكن سؤال اسف لكنه خارج موضوع كلامك
لكنها مشكلة كبيرة خدماتي لم يتم قبولها او رفضها وانا ما زلت مبتدأ في هذا الموقع هل يكنك مساعدتي وتصفحت الاسئلة الشائعة لكن لم ارى شيء عن مشكلتي
منذ 3 سنوات و8 أشهر
السلام عليكم أخي محمد،
على ما يبدو أن لدي المشكل نفسه، فأنا عن نفسي أيضا وضعت خدماتي وما وجدت من رد.
من الواضح أني وضعتها بشكل خاطئ أو غير كامل.
سأتواصل معك في حال توصلت إلى حل المشكل إن شاء الله.
منذ 3 سنوات و8 أشهر
يتم مراجعة الخدمات من قِبل إدارة الموقع ويتم الرد عليكم عند الإنتهاء من المراجعة بالقبول او الرفض لا قدر الله وعندها يذكرون سبب الرفض.

ويمكن أن يتأخر الرد من الإدارة بسبب الضغط وكثرة الخدمات التى يتم مراجعتها.

ولكن فى كل حال يتم الرد وبإذن الله يتم الرد عليكم بالقبول.
منذ 3 سنوات و8 أشهر
شكرا لك أختي دينا
منذ 3 سنوات و8 أشهر
شكرا على وقتك.
عن الموضوع