بسم الله الرحمن الرحيم
كان ياما كان وفي قديم الزمان... عاش أمير صغير يدعي باسل في قصر شاسع واسع بين الجبال والسحاب... به حديقة كبيرة تحتوي علي شتي أنواع الزهور الملونة وتفوح منها روائح عطرة... وبداخل القصر الكثير من الغرف وسقفها مُزين بآيات من القرآن الكريم... وفي أكبر غرفة في القصر كان باسل نائمًا على فراشه الوثير محاطًا بالوسادات الناعمة والدمى الجميلة... وبالرغم من أن الشمس قد ارتفعت في السماء لكنه كان لا يزال غارقًا في نومه العميق.
كان كبير الخدم حازم يدور في أروقة القصر يتفقد كل غرفة ليتاكد من نظافة القصر... وفي أحد الأروقة لاحظ بقايا طعام على طاولة الممر فنهى الخدم عن الإهمال ثم توجه إلى المطبخ حيث كان الطباخ عامر منهمكًا في تقطيع الخضروات لكن القدور كانت فارغة... فقال له كبير الخدم بنبرة حازمة: عامر! الشمس أوشكت علي الغروب والأمير لم يتناول فطوره بعد! أين العصيدة والحلويات؟
أجاب عامر مذعورًا: أنتظر استيقاظ الأمير حتى لا يبرد الطعام.
فرد كبير الخدم بحزم: هذا ليس عذر! يجب أن تكون مستعدًا دائمًا.
توجه حازم إلى غرفة الأمير باسل فوجد اثنين من الخدم واقفين عند الباب يرتعشان كورقتين في الريح فسألهما رافعاً حاجبيه: لماذا لم توقظوا الأمير بعد؟
قال أحدهما بصوت خافت: نخاف أن يغضب منا يا سيد حازم! بالأمس رمى الوسادة على رأس من أيقظه.
فرد حازم بغضب: ما هذا الجُبن؟ خدم الأمير يجب أن يكونوا شجعان!
رد الآخر: لماذا لا تدخل أنت وتوقظه؟ أظن أنك اشجع شخص هُنا بما انك كبير الخدم.
فرد حازم بسرعة: بالطبع انا الأشجع.
أنهي حازم كلامه ثم دفع الباب بلطف ودخل الغرفة... كانت الشمس تدخل من النافذة فترسم أشعةً ذهبية على وجه باسل النائم... هز حازم كتفيه برقة قائلًا: استيقظ يا أميري، لقد طلع النهار والطيور تغرد في انتظارك!
لكن لم يتحرك باسل... فجذب حازم الغطاء بلطف وقال: الفطور ينتظرك، والحلوى التي تحبها جاهزة!
فتح باسل عينيه متذمرًا: اتركني وأنتظر حتى آمرك!
لكن العم خالد أمسك بيده بلطف قائلًا: اليوم يوم خاص، هناك هدية تنتظرك في الحديقة...
فجلس باسل فجأةً متحمسًا بينما يقول: هدية؟ ما هي؟
قال العم خالد مبتسمًا: ستراها عندما تغسل وجهك وترتدي ملابسك أولًا!
بعدما استيقظ باسل وغير ثيابه ثم خرج من الغرفة متوجهًا نحو غرفة الطعام ثم جلس على كرسيه العالي محدقًا بملل نحو المائدة المليئة بمختلف أشكال الأطعمة... رفع الملعقة متذوقًا عصيدة ثم ألقاها غاضبًا وهو يقول: هذه العصيدة مالحة! من أعدها؟
تقدم الطباخ عامر مرتجفًا قائلًا: انا يا سيدي الأمير! لقد وضعت الملح بنفسك بالأمس وقالت أنها يجب أن تكون مالحة قليلاً! لهذا اضفت المزيد من الملح اليوم.
صاح باسل: انا أتكلم لا تقاطعني! كما انني لا أتذكر ذلك! هيا أعد صُنعها الآن!
نظر الخدم إلى بعضهم بحزن بينما همس حازم للطباخ: أعد صنعها بسرعة ولا تجعله يغضب أكثر.
في هذه اللحظة سمعوا صوتًا غريبًا يأتي من الحديقة... كان صوتًا ناعمًا مثل حفيف الأوراق وكأنه يهمس بكلمات غير واضحة... نظر باسل بفضول: ما هذا الصوت؟ ألم تسمعوه؟
رد حازم: ربما هي الهدية التي أخبرتك عنها يا أميري... هل تريد أن تكتشفها؟
نهض باسل فجأةً ناسيًا غضبه بينما يقول: بالطبع! لكن ليكن أحدكم أمامي... في حال هناك شيء خطر!
تقدم بعض الخدم خلفه بخوف بينما خرجوا جميعًا إلى الحديقة حيث كان هُناك كتاب ذهبي يلمع تحت شجرة التفاح.
تقدم الجميع نحو الكتاب الذهبي الغريب وكان ينبعث منه نور خفيف كضوء القمر... توقف باسل خلف الخدم وقال بحذر: ما هذا؟ لماذا لم أره من قبل؟
اقترب حازم ببطء وأمسك بالكتاب فإذا به يُفتح فجأة من تلقاء نفسه ويهمس بصوت نديّ كقطرات الندى: مرحبًا يا باسل.. أنا كتاب الحكمة، جئت لأخذك في رحلة لن تنساها!
ضحك باسل باستعلاء قائلًا: أنا أمير! لا أحتاج لحكمة كتاب!
لكن الكتاب لم ينته بعد.. فبدأت صفحاته تتحرك وتظهر عليها صور حيوانات متحركة! ثم قال الكتاب: لنرى من الأقوى.. أنت أم الأسد؟
وفجأة.. انطلق نور ساطع من الكتاب ووجد باسل نفسه وحيدًا في غابة كثيفة! اختفى القصر والخدم ولم يبق سوى صوت الكتاب يهمس: ستعود لقصرك عندما تتعلم التواضع!
بدأ باسل يرتجف عندما سمع زئير أسد من بعيد... لأول مرة يشعر بأنه ضعيف وصغير... نظر إلى يديه الفارغتين وصرخ: أين الجميع؟ أنا خائف!
سمع صوت الكتاب مرة أخرى: الخوف يذكّرنا بأننا بشر.. والآن.. ابدأ رحلتك!
التفت باسل في حوله في كل اتجاه بينما كانت الأشجار العالية تحجب ضوء الشمس والأصوات الغريبة حوله في كل مكان... كان قلبه يخفق بشدة... سمع همس الكتاب مرة أخرى: انظر إلى يمينك.. هناك أسدٌ ضخم يبحث عن فريسته!
التفت باسل بسرعة نحو المكان الذي قال عليه الكتاب ليري أسد ضخم كان اكبر منه بكثير وأنيابه الحادة الفضية تلمع في الظلام مثل السيوف... اقترب الأسد اكثر فأكثر ومع كل خطوة كان باسل يتراجع إلي الخلف... لكن الأسد زأر فجأة واقترب منه فجاة وفي تلك اللحظة ظن باسل أنه سيصبح وجبة عشاء لذلك الكائن الضخم أغمض عينيه برعب وقبل أن يصرخ شعر بأنه يطير... فتح عينيه ببطء فوجد نفسه بين مخالب صقر عملاق... بينما كان باسل يحلق في السماء كان قلبه يخفق كالطبول... نظر إلى الأسد الذي أصبح صغيرًا في الأسفل ثم صاح خائفًا: إلي أين تأخذني؟!
لم يجب الصقر لكنه حلق به أعلى وأعلى ثم فجأة... سمع صوت الكتاب يهمس في أذنه: لا تخف.. هذا الصقر هو من سيوصلك في رحلتك!
نزل الصقر به برفق فوق جبل عال وهناك رأى باسل شيئًا غريبًا.. جملًا عجوزًا يجلس بهدوء تحت نخلة التمر... قال الصقر بصوت عميق: هذا هو سفينة الصحراء.. سيعلمك درسًا لن تنساه!
ثم طار بعيدًا تاركًا باسل مع الجمل... نظر باسل إلى الجمل العجوز المغطى بالغبار وقال باستعلاء: أنت مجرد جمل! ماذا يمكن أن تعلمني؟
رفع الجمل رأسه ببطء وابتسم ابتسامة هادئة بينما يقول: في الصحراء حيث أعيش نعلم أن الطعام يزول والآبار تجف لكن الصبر يبقي ثابتًا مثل النجوم... هل تعرف كيف نسير لأيام دون ماء؟ لأننا لا نسرع الخطى.. نتحلى بالصبر.
قال باسل: لكنني أمير! لا أحتاج للصبر فانا شخص مُهم الجميع ينتظرني!
ضحك الجمل بلطف ثم قال: حتى الشمس تنتظر وقتها لتشرق.. وأنت لست أهم من الشمس!
في تلك اللحظة شعر باسل بشيء غريب.. وكأن غروره وتكبره بدأ يذوب... مثل جبل من الثلج والجليد يختفي تحت أشعة الشمس... عاد الصقر من جديد لكن باسل رفض أن يحمله الصقر مثل المرة الماضية فقال: يا انت لا تحملني بهذه الطريقة! انت تتعامل مع أمير...
وقبل ان يُكمل باسل كلامه حمله الصقر وطار به بعيدًا بينما كان باسل عابسًا بغضب... حط الصقر بباسل عند بحيرة صافية كالمرآة تلمع مياهُها تحت أشعة الشمس... كان باسل غاضبًا لكن منظر البحيرة الساحر جعله يلتزم الصمت للحظة... فجأة قفزت سمكة فضية صغيرة من الماء وهبطت على ورقة زنبق عائمة ثم تحدثت بصوت رقيق مثل خرير المياه: مرحبًا أيها الأمير الصغير... أتعتقد أن الغضب سيحل مشاكلك؟
نظر باسل بدهشة إلى السمكة المتكلمة وقال بمزيج من الغرور والفضول: أجل بالطبع.
ضحكت السمكة ثم قالت: في أعماق هذه البحيرة الماء لا يتصارع مع الصخور بل يتدفق حولها.. هذه هي الحكمة أتعلم كيف نعيش تحت الماء؟ لأننا لا نحاول السيطرة على التيار بل نتعايش معه.
قال باسل متعجبًا: لكنني أمير! يجب أن يطيعني الجميع!
أجابت السمكة بحكمة: حتى البحر الكبير لا يأمر الأمواج بل يتركها تتجول بحرية.. القوة الحقيقية ليست في السيطرة بل في التفهم!
في تلك اللحظة نظر باسل إلى انعكاس وجهه في الماء ورأى نفسه بشكلٍ جديد.. لم يعد ذلك الأمير المغرور بل بدأ يشعر بأنه جزء من هذا العالم الكبير... لكن ورغم ذلك استمر باسل في غروره وقال بعناد: ربما يبدو ما قلتيه مقنعًا بعض الشيء لكن البحر لا يتحدث انه مجرد مياه كما انني بالتأكيد افضل منكِ فانتِ مُجرد سمكة صغيرة... حتي انكِ لا تملكين أقدام!
ردت السمكة بابتسامة: لكنني استطيع التنفس تحت المياه أما انت فلا تفعل... كل منا لديه ما يُميزه يا صغير.
بينما كان باسل يتأمل انعكاس وجهه في ماء البحيرة... سمع صوتًا رقيقًا يغرد فوق رأسه... نظر إلى الأعلى فرأى عصفورًا صغيرًا يرفرف بجناحيه الذهبيتين ويغرد بألحان جميلة... قال العصفور بصوت ناعم: أيها الأمير.. هل تعلم لماذا أستطيع الطير إلى أعالي السماء؟ لأنني لا أحمل أي غرور في قلبي.
رد باسل بهدوء فهو لم يعد غاضبًا: لكنك صغير جدًا! كيف تكون حرًا بهذه الطريقة؟
ضحك العصفور و حلق في دائرة فوق رأس باسل: الحجم لا يحدد حريتي.. قلبي المتواضع هو الذي يجعلني أطير أعلى من الجبال!
أضاف العصفور: هل تريد أن تعرف سرّي؟ أنا لا أمتلك قصرًا ولا خدمًا لكنني لدي السماء كلها! فالغرور مثل قفص ذهبي لكن التواضع يمنحك السماء كلها.
في تلك اللحظة شعر باسل بأن قلبه أصبح خفيفًا كالريشة... حتي انه بدأ يبتسم للمرة الأولى منذ بداية الرحلة... بينما كان العصفور يطير ويغرد ظهر الكتاب الذهبي فجأة في الهواء وبدأ يدور حول باسل مثل فراشة سحرية! وهو يقول: لقد حان وقت العودة... لكن هل أنت مستعد؟
فجأة وبلمح البصر عاد باسل إلي القصر... وجد نفسه واقفًا في منتصف المطبخ بينما كان الطباخ عامر يُعد العصيدة بسرعة... ارتجف عامر عندما رأى الأمير وكاد أن يسقط الوعاء من يديه... ثم قال بصوت مرتجف: سيدي الأمير! ماذا تفعل هُنا؟
نظر باسل حوله لبرهة ثم تذكر كل شيء... الكتابة، الغابة، الأسد، الجمل، السمكة، والعصفور... نظر إلى عيني عامر الخائفتين ثم إلى العصيدة التي كان يعدها بيدين ترتجفان... ابتسم باسل ابتسامة هادئة لأول مرة وتقدم نحو عامر... ووضع يده برفق على كتفه وقال: لا تقلق... العصيدة رائعة كما هي ولا حاجة لتغييرها.
ساد الصمت المطبخ للحظة... نظر الخدم إلى بعضهم في ذهول... حتى حازم الذي كان واقفًا عند الباب فتح عينيه من الدهشة... أخذ باسل طبق العصيدة وتناول لقمة منها ثم قال: إنها لذيذة حقًا... شكرًا لك على عملك الشاق.
لم ينطق عامر بكلمة لكن الدموع بدأت تملأ عينيه... غادر باسل المطبخ وخرج إلى الحديقة حيث كان الكتاب الذهبي ينتظره على فرع شجرة التفاح... همس الكتاب بينما يلتقطه باسل: الآن فهمت معنى أن تكون أميرًا حقيقيًا.
أومأ باسل وهو يفتح الصفحة الأولى ليكتشف أن الكتاب قد امتلئ بقصص جديدة عن التواضع واللطف كتبت بأناقة بحبر لونه ذهبي... ومنذ ذلك اليوم أصبح قصر باسل مكانًا مختلفًا... فلم يعد صمت الخوف يملأ أروقته بل أصبح يعج بضحكات الأطفال وهم يلعبون في الحديقة وبأصوات الخدم وهم يتبادلون أطراف الحديث مع أميرهم الذي صبح صديقًا لهم... وفي كل مساء كان باسل يجلس تحت شجرة التفاح يقرأ في الكتاب الذهبي قصة جديدة بينما كانت الحيوانات التي قابلها في رحلته تزوره في أحلامه.
بحمد اللّه تم
النهاية
الرجاء قراءة القصة واخباري بالمميزات والعيوب.

عن الموضوع

التعليقات (9)

منذ 3 أشهر و9 أيام
رائعة ومفيدة المميز طريقة السرد والحكمة عن التواضع

أنا كاتبة

هلا ترسلي خاص أنا جديدة هنا اود التعاون معك
منذ 3 أشهر و9 أيام
شكرًا عزيزتي لكنك لم تضيفي خدمة بعد لهذا لا استطيع التواصل معكِ.
منذ 3 أشهر و9 أيام
اضفت وحذفتها اذا هل استطيع انا التواصل معك عبر خدماتك؟
منذ 3 أشهر و9 أيام
حسنًا يا اختي لا مشكلة.
منذ 3 أشهر و9 أيام
السلام عليكم
القصة في غاية الروعة و بها حكمة جميلة
ولكن في السطر 31 حدث خطئ ذكرتي خالد بدل من حازم في اكثر من مرة
منذ 3 أشهر و9 أيام
وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته
شكراً جزيلاً لك على وقتك الثمين وكلماتك الطيبة وملاحظتك... أنت محق تماماً، وهذا خطأ غير مقصود في النسخة.
إذا وجدت أي ملاحظات أخرى فلنت مشكور إذا شاركتها معي.
منذ 3 أشهر و9 أيام
*فانت
منذ 3 أشهر و9 أيام
بصدد القراءة
منذ 3 أشهر و8 أيام
شكرًا علي وقتك الثمين

عن الموضوع