السلام عليكم ورحمة الله، أرجو أن تكونوا في أحسن الأحوال. هذه مقالة أخرى من تأليفي، رجائي أن تفيدكم وتنال إعجابكم.
الأب الحكيم:
نتجاهل، معظمنا، عاطفة الأب، بل إن الأب في أحيان كثيرة لا نُنصفه في مشاعره.. فلطالما تمعننَا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولى الناس بالصحبة، فنظمنا ما شاء الله لنا أن ننظم عن ذكر الأم مرات ثلاث، وما التفتنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "ثُمَّ أَبُوكَ" .
في الغالب لا يُظهر الأب مشاعره لأبنائِه، بل إنه يَظْهر جلِداً صبوراً رغم الهموم التي تكدّر عليه لحظاته السعيدة، ويتَّقي أن يبُث لأبنائه بها كي لا يزعجهم أو يحمِّلهم هماً لا طاقة لهم به.
للأب عاطفة خاصة، ونظرة فريدة يمتاز بها، فهو يحمل أعباء البيت كله ولا يشتكي أبداً، فبذلك يجهل الجميع ماهية مشاعره وأحاسيسه. يعرف ما يحتاجه أبناؤه وإن لم يتكلّموا عنه؛ تكفيه إشارة خفية ليَفهم، يُحسن الإصغاء لهم، وإذا ما دعت الحاجة يقتحم عالمهم بفهمهم ليساعدهم ويُعينهم على ما هم فيه. هكذا يكون الأب الحكيم.
في ظل الزمان الذي نعيش فيه، من الصعب على الأبناء اتقاء مخاطر كثيرة، فكل العالم مختزل بأيديهم في هواتفهم الذكية، وشاشات الحاسوب.. لهم أن يفعلوا ما يشاءون ويلجوا به أي عالم وأي موقع.. بعضهم يُخطف من بين أيدي آبائه خطفاً يُجْثَت به فما يستطيع الأبوان مساعدته في شيء.. قد يغرق بوحلٍ ما يقدر أحد على إخراجه من الدرك الذي وقع فيه أو تنظيفه من الشر الذي ولج غماره.. لكن؛ يبقى شيءٌ واحد في صدور الأبناء وعقولِهم، إما أن يمنعهم من الخطأ فيتقونه؛ أو يهيمون فيه وإحساس بالذنب يخالجهم؛ والذي هو ما تلقَّفوه ببيتهم من أخلاق، وغالباً؛ يطرحون السؤال: ماذا لو علم والدي بالأمر؟.
إن الأب يُداري جِراحه بنفسه، ويعلم دائما ما يحسّه أبناؤه دون أن يبدي علمه بذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ أذكر قصة ابنة شعيب عليه السلاّم، والتي طلبت من والدها أن يستأجر موسى عليه السلام، "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ" ، وتوّاً فهم الأب مقصد ابنته، وفطن إلى إعجابها به وبقوته وأمانته، فخاطب موسى قائلا: "إِنِّي أُرِيدُ أَنُ انكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ" . وأعرِض هنا تفسيراً لهذه الآيات الكريمات لفهم المقصود:
"واستجاب الشيخ الكبير لما اقترحته عليه ابنته، وكأنه أحس بصدق عاطفتها، وطهارة مقصدها وسلامة فطرتها، فوجّه كلامه إلى موسى قائلا: "إِنِّي أُرِيدُ أَنُ انكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ".
أي قال الشيخ الكبير لموسى مستجيبا لاقتراح ابنته: يا موسى إنّي أريد أن أزوّجك إحدى ابنتي هاتين.
ولعلّه أراد بإحداهما، تلك التي قالت له: "يَأَبَتِ اسْتَاجِرْهُ"، لشعوره –وهو الشيخ الكبير، والأب العطوف، الحريص على راحة ابنته –بأن هناك عاطفة شريفة تمّت بين قلب ابنته، وبين هذا الرجل القوي الأمين، وهو موسى عليه السلام.."
هكذا يكون الأب حكيماً، فالشيخ هنا؛ ما أنّب ابنته لإعجابها بموسى عليه السّلام، ولكنّه كان جسراً بينها وبينه، وحقّق لها ما تمنّته دون أن تفصح عنه.
وهناك في القرآن الكريم أمثلة أخرى لحكمة الآباء، منها في سورة لقمان، الطريقة التي نصح بها لقمان الحكيم ابنه، إذ قال: "لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" فقد ذكر بعض المفسرين أن ابن لقمان كان مشركاً، وما زال ينصحه ويعظه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى آمن بالله وحده. وطوال الآيات الأخرى ذكر الله سبحانه وتعالى وعظ لقمان لابنه، وكيف أقنعه بالإيمان بالله وحده، فلو أن أباً في عصرنا الحاليِّ خالفه ابنه بأمر جللٍ حقيرٍ، هل كان ليسدي له النصيحة بالسّلم كما فعل لقمان الحكيم مع ابنه المشرك؟
من السّهل أن تكون أباً، لكن من الصعب أن تكون أباً حكيماً.
دوننا القرآن فلنعمل به، ولنجعله نبراساً ينير لنا ما أظلم من الطرق، ففيه كيفية التعامل مع أبسط الأمور، وربنا سبحانه ما حفظه لنا إلا لنعمل به ولنتدبّر آياته.

شكرا لكم :)
عن الموضوع

التعليقات (12)

منذ 5 سنوات و8 أشهر
و عليكم السلام

مقال أكثر من رائع أختي الكريمة سلمت يداكِ
منذ 5 سنوات و8 أشهر
شكرا لك :)
موفق أخي الكريم بإذن الله.
منذ 5 سنوات و8 أشهر
مقالة رائعة أختي..

لكن الجملة في الفقرة الاستهلالية: "بل إن الأب في أحيان كثيرة لا نُنصفه في مشاعره"

جملة ركيكة ويجب تغييرها لتصبح أفصح
منذ 5 سنوات و8 أشهر
ماشاء الله اختي ماريا ,من الرائع ان تهتمي بالكتابة عن الاباء في وقت اغفل فيه الكثير دور الاباء
وحكمتهم وكأن العرفان لا يكون الا لأمهاتهم فقط
منذ 5 سنوات و8 أشهر
شكرا لك على مرورك.
ما الركيك فيها؟
منذ 5 سنوات و8 أشهر
يا اختي العزيزة بكل بساطه الاب له اكتر من كل هذا و لكن عملك جيد جدا و انصحك بالتقدم في عملك
منذ 5 سنوات و8 أشهر
شكرا على مرورك.
منذ 5 سنوات و8 أشهر
ماشاءالله اسلوب جميل وفصيح، حفظ الله لكِ أباكِ وآبائنا جميعًا.
يسعدني تقييمك لمقالي ايضًا في قسم نماذج الأعمال ^-^
منذ 5 سنوات و8 أشهر
شكرا لك على مرورك :)
منذ 5 سنوات و8 أشهر
مقال رائع ، استمري :)
منذ 5 سنوات و8 أشهر
مقال رائع , بالتوفيق
منذ 5 سنوات و8 أشهر
شكرا لكم جميعا :)
عن الموضوع