أحببتُ أن أشارك معكم قصتي القصيرة :)
بانتظار آرائكم !

محرابُ الروتين

في السابعة صابحاً، تحت أشعة الشمس الراقصة، في حيٍّ من أحياء القاهرة القاديمة، جلس محمود صاحب الخمس سنوات في شرفته وراح يستمتع بنسيم الصباح وزقزقة العصافير، يوجد بعض الناس يمارسون أعمالهم في الشارع وفي الشرفات، عمّ عبده البقال يفتح دُكَّانه، بائع الفول يتجول بعربته ويرنّ بجرسه الذهبي الصغير، أمُّ وليد تنشر الملابس في الشرفة المقابلة، وبثينة ابنة الجيران تنفض السجّاد في الشرفة التي تليها ووجها ملئ بالتراب.

حلّق طائر في السماء، كان يفرد جناحيه ويجوب الشارع ذهاباً وإياباً كأنّه يلهو، راقب محمود الطائر وهو يحلِّق عالياً بمحاذاة أعلي بناية في الحي، ويهبط ثانية حتي يكاد أن يلامس الأرض، كان يطير بسرعة كبيرة هنا وهناك .. وكأنّه يطير للمرة الأولي، وكأنه يستلذ بالطيران مثلما نستلذ نحن به ونتمنّاه، كان شكله رائعاً وجذّاباً.

كان كل الناس مشغولون في شؤونهم، لم يفهم محمود لماذا لا يلحظون هذا الجمال الأخّاذ، إن هذا الطائر يعرف قوانين الفيزياء حق المعرفة ويمارسها في كل دقيقة عن ظهر قلب، يمارسها ببراعة ودقة كيف له أن يفقه ذلك !؟ ، وهذه السماء بلونها الأزرق المفعم بالحيوية، والذي يعيد البهجة إلي قلبك المسكين، وتلك الشجرة هناك، كيف لها أن تكون بهذا الجمال ! إن أوراقها الخضراء تلمع بشدة بعدما غسلتها قطرات النندي في الليل فتعطيك شعوراً بأن الحياة تدبّ في أوصالها، بأنها إنسان مثلك ومثلي ، غير أنها لا تتكلم ولا تمشي. ربما هذا ما دفع محمود إلي الدهشة.

أحياناً أشعر بأن الكبار يسيطر عليهم الروتين وتتحكم فيهم الظروف، تحرّكهم الحياة يميناً ويساراً كأنهم عرائس ماريونيت، لا يملكون شيئاً سوي الاحتجاج بالقَدَر، بالنصيب، بالشيطان، أو حتي بالإله !

~ وهل لنا من الأمر شئ ! ~

هم رضوا بأن يكونوا كالآلات .. يعملون .. ينامون .. يأكلون ويشربون، هذا كل ما يشغل أذهانهم، كأنهم مجموعة من الزومبيز، ولا تلبث أن يحملوا إليك المرض فتصبح مثلهم، مجرد آلة تمثّل أنها إنسان.

تعجّب محمود كيف لا يلحظون الجمال الذي يقبع في كل شئ، لا يلقون بالاً بلون السماء أو بزقزقة العصافير أو بلون الأشجار .. إنهم ميِّتون.

كبُر محمود وبعدما كان كل ما يقبع في العالم يثير إعجابه ودهشته، أضحي بليداً لا يحرّك ساكناً لأي جميل، وبعدما كان طفلاً حالماً يفكّر في كل ما في الوجود من أشياء تدعو للحيرة والإعجاب، أمسي كل ما في الحياة مألوفاً واعتيادياً، لقد أصبح مثلهم .. لقد أصبح آلةً مثلهم، لقد أضحي عضواً في مجموعة الزومبيز .. باتَ ميتاً.

إنّ الفلسفة في معني من معانيها تعرف بأنها “الدهشة”، وعلي ذلك، فالفيلسوف يجب أن يملك القدرة علي الدهشة، القدرة علي مشاهدة العالم وكأنها المرة الأولي، فالدهشة هي أول ما يتزوّد به الباحث عن الحقيقة، وبهذا المعني، فالطفل في بداية حياته يكون من أعظم الفلاسفة ، فهو يأتي إلي الحياة لا يعرف فيها شيئاً ولا يفقه فيها أمراً، ثم هو يبدأ باستكشاف كل شئ لأول مرة، فيدهشه كل صغير وكبير وينال ذهنه كل خسيس ونفيس ويتعجب إلي كل طبيعي ومصنوع، لكن ما أن يكبر حتي يعتاد الحياة شيئاً فشيئاً ويلزم قوانينها حيناً بعد حين، ثم ها هو يتوغّل في الدنيا وشؤونها ومشاغلها وما كان مدهشاً ورائعاً بالأمس صار عادياً ورتيباً اليوم.

ثم ما يلبث أن يتحوّل إلي مجرد شخص كسول وممل، يعبد الرغيف ويقدّم له القرابين ، ويتعبّد ليل نهار .. يتعبّد في محراب الروتين.

30 سبتمبر 2016م
عن الموضوع

التعليقات (6)

منذ 7 سنوات و3 أشهر
قصة رائعة ومختصرة، بكلمات جذابة وراقية، جذبني إليها عنوانها الغامض الملفت.
واصل أخي، أتمنى لك كل التوفيق!
منذ 7 سنوات و3 أشهر
السلام هليكم

واصل اخي العزيز
انها قصه جميله و رائعة
لقد قرئتها كامله
اتمني لك التوفيق
منذ 7 سنوات و3 أشهر
شكرًا جزيلًا لك :) @عروة عزام
منذ 7 سنوات و3 أشهر
شكرًا لك ياعبدالله ^^
@abdallahm32122
منذ 7 سنوات و3 أشهر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته /

من المهم فعلاً أن يؤدي الإنسان عبادة التأمل التي تجعله يفكر في الخالق ويشكره على نعَمِه كذلك التأمل في السماء الصافية والموج الأزرق والمساحات الخضراء تساعد الإنسان على الشعور بالراحة النفسية .

أحسنت أستاذ ( محمود ماهر ) . بالتوفيق .
منذ 7 سنوات و3 أشهر
شكرًا لك يا أسامة :)
@أسامة حمدي
عن الموضوع